عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدِِ ِ
(( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ رَطْبَاَ َكَمَا نَزَلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدِ ِ)) ….. (محمد صلى الله عليه وسلم)
*****
كان يومئذ غلاما يافعا لم يُجاوز الحُلُم ، وكان يسرح في شعاب مكة بعيدا عن الناس(شعاب: أي:الطريق في الجبل ) ، ومعه غنم يرعاها لسيد من سادات قريش هو عقبة بن أبي معيط (وهو عقبة بن أبان بن ذكوان من كبار قريش ؛كان شديد الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين قتل بعد بدر ).
كان الناس ينادونه (ابن أم عبد) أما اسمه فهو عبد الله ، واسم أبيه مسعود .
كان الغلام يسمع بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم الذي ظهر في قومه فلا يأبه لها لصغر سنه من جهة ، ولبعده عن المجتمع المكّي من جهة أخرى ، فقد دأب بأن يخرج بغنم عقبة منذ البكور ثم لا يعود بها إلا إذا أقبل الليل.
وفي ذات يوم أبصر الغلام المكي عبد الله بن مسعود كهلين عليهما الوقار يتجهان نحوه من بعيد ، وقد أخذ الجهد منهما كل مأخذ ، واشتد عليهما الظمأ حتى جفت منهما الشفاه والحلوق . فلما وقفا عليه سلّما وقالا :
يا غلام ، احلب لنا من هذه الشاة ما نطفئ به ظمأنا ، ونبلّ عروقنا . فقال الغلام : لا أفعل ، فالغنم ليست لي ، وأنا عليها مؤتمن …فلم ينكر الرجلان قوله ، وبدا على وجهيهما الرضا عنه . ثم قال له أحدهما : دُلّني على شاة لم ينز عليها فحل (يعني ذكر الغنم) ،فأشار الغلام الى شاة صغيرة قريبة منه ، فتقدم منها الرجل واعتقلها ، وجعل يمسح ضرعها بيده وهو يذكر عليها اسم الله ، فنظر إليه الغلام في دهشة وقال في نفسه :
ومتى كانت الشياه الصغيرة التي لم تنز عليها الفحول تُدرُّ لبناَ َ ؟!
لكن ضرع الشاة ما لبث أن انتفخ ، وبدأ اللبن ينبثق منه ثرّاً (وفيراً) غزيراً. فأخذ الرجل الآخر حجراً مجوفاً من الأرض ، وملأه باللبن ،وشرب منه هو وصاحبه ، ثم سقياني معهما وأنا لا أكاد أصدّق ما أرى …فلما ارتوينا ، قال الرجل المبارك لضرع الشاة : انقبض … فما زال ينقبض حتى عاد إلى ما كان عليه .
عند ذلك قلت للرجل المبارك : علّمني من هذا القول الذي قلته . فقال لي : إنّك غلام مُعلَّم .
كانت هذه بداية قصة عبد الله بن مسعود مع الإسلام … إذ لم يكن الرجل المبارك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن صاحبه إلا الصّدّيق رضي الله عنه . فقد خرجا في ذلك اليوم إلى شعاب مكة ، لفرط ما آذتهما قريش ؛ ولشدة ما أنزلت بهما من بلاء .
وكما أحبّ الغلام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبه وتعلّق بهما ، فقد أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالغلام وأكبرا أمانته وحزمه ، وتوسَّما فيه الخير(تفرسا فيه الخير).
لم يمض غير قليل حتى أسلم عبد الله بن مسعود وعرض نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخدمه ، فوضعه الرسول صلوات الله عليه في خدمته . ومنذ ذلك اليوم انتقل الغلام المحظوظ عبد الله بن مسعود من رعاية الغنم إلى خدمة سيّد الخلق والأمم .
لزم عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة الظلّ لصاحبه ، فكان يرافقه في حلّه وترحاله ، ويصاحبه داخل بيته وخارجه … إذ كان يوقظه إذا نام ، ويستره إذا اغتسل ، ويُلبسه نعليه إذا أراد الخروج ، ويخلعهما من قدميه إذا همّ بالدخول ، ويحمل له عصاه وسواكه ، ويلج الحجرة بين يديه إذا أوى إلى حجرته … بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام أذن له بالدخول عليه متى شاء ، والوقوف على سرّه من غير تحرّج ولا تأثّم ، حتى دعي ((بصاحب سرِّ)) رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ربي عبد الله بن مسعود في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاهتدى بهديه وتخلّق بشمائله وتابعه في كل خصلة من خصاله حتى قيل عنه : إنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا (خلقا) .
وتعلم ابن مسعود في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من أقرأ الصحابة للقرآن ، وأفقههم لمعانيه وأعلمهم بشرع الله . ولا أدلّ على ذلك من حكاية ذلك الرجل الذي أقبل على عمر بن الخطاب وهو واقف بعرفة فقال له :
جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلبه ، فغضب عمرا غضبا قلّما غضب مثله ، وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل (مقدمته ومؤخرته)… وقال : من هو ويحك (ويلك)؟!
قال : عبد الله بن مسعود .
فما زال ينطفئ ويسرّى عنه حتى عاد إلى حاله ، ثم قال :
ويحك ، والله ما أعلم أنه بقي أحد من الناس أحق بهذا الأمر منه ، وسأحدّثك عن ذلك . واستأنف عمر كلامه فقال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر ذات ليلة عند أبي بكر ، ويتفاوضان في أمر المسلمين وكنت معهما ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه ، فإذا رجل قائم يصلي بالمسجد لم نتبيّنه (لم نعرفه) … فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إليه ، ثم التفت إلينا وقال :
(( من سرََّه أن يقرأ القرآن رطبا كما نزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ))
ثم جلس عبد الله بن مسعود يدعو فجعل الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له : ( سَلْ تُعْطَه … سَلْ تُعْطَه ) … ثم أتبع عمر يقول :
فقلت في نفسي : والله لأغدونّ على عبد الله بن مسعود ولأبشرنه بتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم على دعائه ، فغدوت عليه فبشرته ، فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه ، فبشّره … ولا والله ما سابقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه .
ولقد بلغ من علم عبد الله بن مسعود بكتاب الله أنه كان يقول : والله الذي لا إله إلا غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وأعلم فيما نزلت ، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تناله المطيّ (أي يمكن الوصول إليه ) لأتيته .
لم يكن عبد الله بن مسعود مبالغا فيما قاله عن نفسه ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلقي ركبا (قافلة) في سفر من أسفاره ، والليل مخيّم يحجب الركب بظلامه ، وكان في الركب عبد الله بن مسعود ، فأمر عمر رجلا أن يناديهم :
من أين القوم ؟ ….. فأجابه عبد الله : من الفج العميق ( الوادي العميق) .
فقال عمر : أين تريدون ؟…. فقال عبد الله : البيت العتيق .
فقال عمر : إن فيهم عالما … وأمر رجلا فناداهم : أيّ القرآن أعظم ؟
فأجابه عبد الله :
(( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةُ ُوَلا نَوْمُ ُ)) (البقرة : 255 )
قال : نادهم أيّ القرآن أحكم ؟…. فقال عبد الله :
(( إِنّ َالله يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَاْنِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ القُرْبَى )) (النحل : 90)
فقال عمر : نادهم أيّ القرآن أجمع ؟ …..فقال عبد الله :
(( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةِ ِخَيْرا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةِ ِشَرَّا يَرَه )) (الزلزلة : 7 ـ 8 )
فقال عمر : نادهم أيّ القرآن أخوف ( يعني الآية التي تبعث الخوف من الله في قلب المؤمن ) ؟ … فقال عبد الله :
(( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءَاَ يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيََّاَ َوَلا نَصِيْراَ َ)) (النساء : 123)
فقال عمر : نادهم أيّ القرآن أرجى ( يعني الآية التي تبعث في القلوب الرجاء في الرحمة والمغفرة ) ؟ ….. فقال عبد الله :
(( قُلْ يَا عِبَاْدِي الذِيْنَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُنُوْبَ جَمِيْعَاَ َإِنَّهُ هُوَ الغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ )) (سورة الزمر : 53)
فقال عمر : نادهم ، أفيكم عبد الله بن مسعود ؟!
قالوا : اللهم نعم .
ولم يكن عبد الله بن مسعود قارئا عالما عابدا زاهدا فحسب ، وإنما كان مع ذلك قويا حازما مجاهدا مقداما إذا جدّ الجدّ. فحسبه أنه أول مسلم على ظهر الأرض جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فقد اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ، وكانوا قلّة مستضعفة …فقالوا :
والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ ،فمن رجل يُسمعهم إياه؟! … فقال عبد الله بن مسعود : أنا أسمعهم إياه .
فقالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة ، تحميه وتمنعهم منهم إذا أرادوه بشرّ …فقال : دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني .
ثم غدا الى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى ، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ :
(( بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْم – رافعا بها صوته – الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ )) (سورة الرحمن : 1 ـ 4 )
ومضى يقرأها ، فتأمّلته قريش وقالت : ماذا قال ابن أم عبد ؟!….. تبّا له …إنه يتلو بعض ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم ) …
وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك … فقال : والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن ، وإن شئتم لأغادينّهم ( لأخرجنّ لهم في صباح اليوم التالي ) بمثلها غدا ، قالوا : لا ، حسبك لقد أسمعتهم ما يكرهون .
عاش عبد الله بن مسعود الى زمن خلافة عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، فلّما مرض مرض الموت جاءه عثمان عائدا ، فقال له :
ما تشتكي ؟
قال : ذنوبي .
قال : فما تشتهي ؟…… قال : رحمة ربِّي .
قال : ألا آمر لك بعطائك الذي امتنعت عن أخذه منذ سنين ؟! ….. قال : لا حاجة لي به .
قال : يكون لبناتك من بعدك .
قال : أتخشى على بناتي الفقر ؟ … إني أمرتهنّ أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة … وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا )) ( الفاقة : الفقر والحاجة )
ولمّا أقبل الليل ، لحق عبد الله بن مسعود بالرفيق الأعلى ، ولسانه رطب بذكر الله ، نديّ بآياته البيّنات . فصلّى عليه جموع من المسلمين ؛ فيهم الزبير بن العوام …ثم دفن في البقيع .
رحم الله الصحابي عبد الله بن مسعود رحمة واسعة
وجمعنا معه في جنات الخلد .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابة